التحدى العلمى - لنيافة الانبا موسى

 

مقدمة

 

العلم هو التحدى الأكبر فى القرن الحادى والعشرين. والصراع القادم - فى رأى الباحثين - سوف لن يكون بين من يملك ومن لا يملك، بل.. بين من يعرف ومن لا يعرف!!

المعرفة - إذن - هى مجال المنافسة الكبير فى القرن القادم، والعلم هو من أهم أدوات المعرفة.

 

ثقافتان :

 

يتحدث العالم الآن عن ثقافتين تتكاملان فى حياة البشر: الثقافة المادية، والثقافة الروحية.

وأن الخطر - كل الخطر - يكمن فى أن إنسان العصر الجديد يركز على الثقافة المادية، ويتجاهل الثقافة الروحية.

 

1- الثقافة المادية:

 

هى علوم التجريب والمادة والحسيات، الطبيعة، والكيمياء، والهندسة، والطب، والفلك، والتكنولوجيا، والجغرافيا، والاقتصاد.. الخ. وهى بلاشك علوم هامة لإسعاد الإنسان، لكن.. على هذه الأرض، وفى حياته المادية وصحته الجسدية.

 

2- الثقافة الروحية:

 

هى العلوم الإنسانية المتنوعة كالدين، والتربية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والإعلام، والأدب، والتصوف.. الخ. وهى بلا شك غاية فى الأهمية، فالإنسان ليس جسداً وحسب، بل هو عقل يفكر، ونفس تحسّ، وروح تتأمل فيما وراء المادة، والطبيعة، والموت!!

من هنا كان النموذج الغربى السائد الآن، والذى تحاول شبكات البث التلفزيونى والمعلومات أن تفرضه علينا كل يوم.. هذا النموذج الغربى فيه ابتسار خطير، فهو يبهرنا بالتقدم العلمى المادى والزمنى، بينما يعوزه الكثير من الأبعاد الروحية والإنسانية والفكرية.

ولاشك أن المراقب المنصف يرى الآن إبداعات مذهلة فى العالم الغربى، مهتمة بالثقافة المادية، بينما يرى شحوباً خطيراً فى البعد الروحى والأخروى.

وقديماً قال السيد المسيح: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر نفسه. ماذا يعطى الإنسان فداءً عن نفسه؟" (مت 26:16).

ما أخطر أن ينبهر الإنسان بالحضارة المادية السائدة، وينسى القحط الروحى الذى يعيش فيه الإنسان الغربى، والأسرة الغربية، والمجتمع الغربى.

إن ثقافة الغرب السائدة الآن، تتمركز حول ثلاثة محاور:

 

1- محور الجسد: إذ تهتم بالصحة والرياضة والتغذية، وهذا جميل وهام ومفرح. لكن الخطر أنها تتمركز حول الجنس الذى شطح بهم نحو أبعاد غاية فى الشذوذ والانفلات، حتى سقط الكثيرون منهم فى نوع من "إدمان الجنس"، والنماذج ماثلة أمامنا، فيما يبثه الإعلان الأمريكى، وشبكة المعلومات، حتى أنه قد صدر أخيراً فى أمريكا كتاب يتحدث عن هذا الأمر، اسمه "مجتمع موجه جنسياً"، وكيف أن الجنس صار يتحكم فى شبكات الإعلام، وروح الإنسان، وسلوكيات المراهقين، بل حتى المتزوجين، بل حتى نشرات الأخبار!! وفى الشهر الماضى كان العالم يتحدث عن الجَّدة ذات الستة والعشرين عاماً، حيث أنجبت ابنتها فى سن 12 سنة، طبعاً بدون زواج كنسى أو حتى مدنى!!

 

2- محور المادة: فالناس الآن يجرون وراء الدولار والمادة، وينسون كل قيم ومبادئ وأديان، فى سبيل الوصول إلى الثراء السريع. ومنذ شهور قليلة عشنا ظاهرة الشهادات الدولارية الورقية، التى تصدرها شركة أجنبية، تبيع فيها أوراقاً بيضاء، يتداولها الشباب فيما بينهم، كل شهادة بأربعين دولاراً، وهذا يكسب من جيب ذاك، دون استثمار أو تجارة أو إنتاج سلعة، بل فى نوع من المقامرة، يخسر فيها الكثيرون، وتكسب الشركة باستمرار.

 

3- محور الذات: حيث يسمى الأمريكيون ثقافتهم، بأنها "ثقافة الأنا" (The Me Culture). فالكل يتمركزون حول ذواتهم، ولا يفكرون إلا فى أنفسهم، ليس فقط على مستوى المجتمع، بل حتى داخل الأسرة. من هنا تمزقت الأسرة إلى أفراد أنانيين، وتمزق نسيج المجتمع، وسادت روح الأخذ، بدلاً من روح العطاء، ومع الأخذ فقط تكون التعاسة، حيث قال الرب يسوع: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أى 35:20).

لذلك لابد أن نركز على الثقافتين معاً، وعلى الاهتمام بالجسد والروح معاً، ففى المسيح يسوع لم يعد هناك صراع بين الجسد والروح، بل ضبط وارتقاء، وشركة حب وجهاد وعبادة:

الروح: تحب وتتأمل وتناجى الرب.

والجسد: يسجد، ويرفع اليدين، ويقرع الصدر، ويصوم، ويسهر.

 

صور التحدى العلمى :

 

إن الاهتمام بثقافة الروح لا ينبغى أن ينتقص من قدر العلم، والإنجازات الحديثة، فى كل المجالات. وأمامنا تقدم علمى مذهل يجب أن نستفيد منه، وهذه بعض الأمثلة:

1- فى المجال الطبى: هناك تقدم مذهل فى أساليب الفحص، بأجهزة حديثة، وكذلك فى أساليب العلاج، مثل زرع الأعضاء واستخدام الليزر، ووسائل الطب الحديث.

2- فى المجال التكنولوجى: ذلك التقدم المثير فى استخدامات وإمكانيات الكومبيوتر، وشبكة المعلومات، حتى صار الحاسب الآلى قادراً على إجراء ملايين العمليات فى ثانية واحدة، وتخزين كم هائل من المعلومات فى حيز صغير، مع ما يمكن أن ينتج عن ذلك من إمكان توظيف وتحليل واستخدام هذه المعلومات، فى مجالات: الحياة اليومية، والبحوث، والتقدم العلمى.

ولعل أحدث صيحة فى عالم الكمبيوتر الـ (Run puter) والكلمة مأخوذة من مقطعين (Run + Computer) أى الحاسب الآلى النقال، حيث اخترع العلماء حواسب آلية فى حجم ساعة اليد، يلبسها الإنسان فى معصم يده ويجرى من خلالها العديد من العمليات الحسابية، واستخراج البيانات والمعلومات والأخبار .. بل ستكون هذه الحواسب ذات ألوان لتتماشى مع ملابس الإنسان!!

3- فى مجال الفضاء: وقد تركنا القمر إلى المريخ، حيث المسافة الشاسعة التى قطعتها Path Finder مجهزة بأحدث آلات الدراسة والاستكشاف، لما يحتويه المريخ من أسرار. ويجتهد العلماء الآن، بسبب بعد المسافة، وحاجة المسافر إلى المريخ إلى كميات هائلة من الأوكسجين لقضاء شهور طويلة فى الرحلة، يجتهدون أن يتمكن رواد الفضاء من استخراج الأوكسجين من صخور المريخ، حتى يستخدموه فى رحلة العودة.

ناهيك عن الفائدة الإعلامية والعلمية والعسكرية والاقتصادية، التى تعود على دول البحوث الفضائية، مخلفين وراءهم الدول المتخلفة، والتى تسمى تأدباً بالدول النامية حيث إذا لم تكن كذلك!

4- فى مجال الهندسة الوراثية: حيث استنساخ النبات والحيوان، وهو جار بصورة مكثفة الآن. وفى بريطانيا ثورة كبيرة على النباتات المعالجة جينياً، حيث يعالج العلماء النباتات بجينات حيوانية، فيمزجون التفاح بالسمك، والبلاستيك بالنباتات، وفول الصويا باللحم الحيوانى. والمشكلة أن أحد العلماء نادى بأن هذه النباتات التى تنتج بوفرة هائلة نتيجة المعالجة الجينية، يمكن أن تقود إلى أنواع من السرطان. ففصل هذا العالم، لأنه سوف يعطل القفزة الهائلة فى الإنتاج، وما يعقبها من أرباح طائلة. ولكن منظمات حماية البيئة، تنادى بضرورة مواصلة البحث فى هذا الموضوع، حماية للإنسان.

أما استنساخ الإنسان فيبدو أنه مسألة وقت!! وهو بالضرورة خطر على "النوع" الإنسانى، إذ سنحصل على "إنسان" بدون زواج، ولا أسرة. مع إمكانية كبيرة لخلط الأنساب. وإن كان البعض يتوقع أن الإنسان المستنسخ سيشيخ سريعاً، لأنه مأخوذ من خلية كبيرة السن، وهذا ما حدث للنعجة "دوللى" كما تقول الأخبار.

هذه مجرد أمثلة للتحديات العلمية الماثلة، وغيرها كثير، وفى المستقبل أكثر.

 

الكنيسة.. والتحديات العلمية :

 

لا توجد لدى الكنيسة أية مشكلة فى موضوع الإنجازات والتحديات العلمية، فهى تعرف أن العلم له دائرته: الحسية، والمادية، والتجريبية.. وأن الإيمان له دائرته: الروحية، والإنسانية، والفكرية. والتداخل بين الدائرتين غير وارد، وكذلك التعارض أيضاً، إنما هناك تكامل بين العلم والدين، فالعلم السليم يدعم الإيمان السليم.

اينشتاين : قال وهو يواصل اكتشافاته وبحوثه التى غيَّرت وجه التاريخ: "كلما ازددت علماً، ازددت إحساساً بالجهالة". ذلك لأنه كلما درس نقطة ما، اكتشف المزيد من النقاط والموضوعات الغامضة، المحتاجة إلى دراسات وبحوث مستفيضة.

نيوتن : حينما سئل: "ماذا كان إحساسك وأنت تكتشف قوانين الطبيعة المذهلة؟" قال: "كنت كطفل صغير، يلهو على شاطئ محيط ضخم". إنه العالم الذى اكتشف الجاذبية، البخار، والقوانين المنظمة لهذا الكون، وقد استطاعت البشرية استخدامها فى تقدم علمى، مذهل وهام.

إن موقف الكنيسة يتلخص فى أمور هامة مطلوبة منها، مثل:

1- الدعوة إلى الاستزادة بالعلوم:

إذ تشجع أولادها على الدراسة والتعلم والبحث، والإسهام فى مجالات وهيئات البحوث العلمية المختلفة، سواء على مستوى الدولة أو القطاع الخاص. إن كل مصنع الآن به شعبة للبحث العلمى، من أجل تطوير المنتج وتحسينه. والكنيسة تشجع استخدام كل الوسائل العلمية المتطورة فى سبيل إسعاد الإنسان، وسواء فى مجالات الطب، أو الهندسة، أو الفضاء، أو التكنولوجيا، أو الاتصال، أو المعلومات.

لقد انتهى عصر كنيسة العصور الوسطى، التى حاولت أن تسيطر على العلماء وإنجازاتهم واكتشافاتهم ونظرياتهم، بل حاولت الإساءة إليهم ومعاقبتهم. وهذا السلوك لم يكن - على الإطلاق - كنسياً ولا كتابياً. فالكتاب المقدس يرى فى الله أنه "مذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 3:2). ومع أنه يرى العلم المادى أمراً جزئياً ووقتياً، ينفعنا فى الزمان الحاضر، إلا أنه لا يحارب العلم ولا العلماء، بل يرى فى الكثير من إنجازاتهم ما يؤكد وجود الله اللانهائى، وعلم الفلك خير دليل على ذلك. وكذلك علم الأجنة والأنسجة... الخ.

كم نتمنى أن يتوقف الغرب عن حرب "استنزاف العقول"، حيث يأخذ خيرة أبناء الدول النامية، مقدماً لهم إغراءات المادة وتسهيلات البحث العلمى. لكن هذا لن يحدث، ما لم تقدم الدولة لعلمائها كل ما يحتاجون، فالعلماء هم "بصيرة" هذا الوطن، "ووسيلة" تقدمه، ليأخذ مكانه ومكانته فى زحام التكتلات العلمية والاقتصادية والسياسية، الماثلة والمستقبلة.

 

 

2- ضرورة وجود علماء متخصصين داخل الكنيسة:

يجب أن تؤمن الكنيسة بحاجاتها إلى علماء أتقياء، من خلالهم تدرس الكنيسة كل ما يستجد على ساحة البحوث والاكتشافات والمحاولات العلمية، لتقدم الرأى المسيحى المناسب، الذى يريح ضمائر أبنائها.

فمثالاً أمامنا موضوع "الاستنساخ"، وكيف أنه لا يخلق جديداً ولكنه يعبث بخليقة الله، مكتفياً بالبعد الجسدى للإنسان دون الأبعاد الروحية والعقلية والنفسية. وأمامنا موضوع "زراعة الأعضاء"، وكيف نحتاج إلى العلم فى تحديد معنى الموت، وعلامات موت المخ، التى بعدها يجوز الاستفادة من أعضاء المتوفى. وأمامنا موضوع "التلقيح الخارجى" (طفل الأنابيب)، وكيفية التأكد من أن الخليتين هما من الزوج والزوجة، وضرورة التأكد من عدم إجهاض وقتل أجنة يجرى تجهيزها ثم تترك للموت. والأبحاث الحديثة الآن يمكنها إثبات النسب باستخدام الـ DNA، كذلك يمكن أن يضع الطبيب كل الأجنة المكونة فى رحم الزوجة، دون أن يجهض أحداً منها.

فى كل يوم سنرى جديداً من منجزات العلم، وعلينا أن ندرسها بأسلوب علمى متخصص، لنتمكن من إبداء الرأى المسيحى المناسب. فمثلاً "استخدام اللولب" من الممكن أن يحدث معه حمل، يتم إجهاضه بسبب وجود اللولب. لذلك يرى العالم المسيحى ضرورة استخدام "فترة الأمان" مع اللولب، لضمان عدم وجود بويضة من الأساس فى هذه الفترة، وبالتالى لا يحدث إجهاض يتعب الضمير!

 

3- الاستفادة من منجزات العلم:

لاشك أن العلم الحديث أنتج لنا الكثير من الوسائل، التى يجب أن نستوعبها ونستخدمها ونستفيد منها، وبخاصة فى مجال "تكنولوجيا الاتصال والمعلومات".. منها أمامنا شبكة الانترنيت التى لن نستطيع الاستغناء عنها فى الحصول على المعلومة، وفى إجراء البحوث، وفى التواصل مع أبناء الكنيسة فى كل مكان، وتخزين وتوثيق العضوية الكنسية، والكتب، والشرائط.. الخ.

وأمامنا الكومبيوتر، بدءاً من الكومبيوتر الشخصى الصغير الذى تخزن عليه التليفونات والمذكرات والحسابات.. إلى الـ Hard Disc والـ Soft Ware التى من خلالها تخزن كميات مهولة من المعلومات فى حيز بسيط. وأمامنا الأقراص المدمجة C.D. التى نجد فيها أكثر من 300 ثلاثمائة مرجع علمى ضخم على قرص صغير، مع إمكانية البحث عن المعلومة المحددة التى نريدها.

أمامنا شبكات الأقمار الصناعية، حيث نستطيع توصيل كلمة الله بالصوت والصورة إلى أعداد ضخمة من البشر، وفى مساحات شاسعة.

إن من يريدون سماع عظة قداسة البابا الآن، فى أى مكان فى العالم، يستطيعون سماعها ومشاهدتها فى آن واحد، من خلال الـ Web الخاص بالبطريركية.

إذن، فالمنجزات العلمية مفيدة، لكن بعضها أو بعض جوانبها مضر، وعلينا أن نطيع هنا وصية الكتاب: "امتحنوا كل شئ وتمسكوا بالحسن" هذا هو الشعار الذى يجب أن نرفعه أمام كافة التحديات العلمية، الماثلة أو المستقبلة. 

"نَحْنُ أَنْفُسَنَا نَفْتَخِرُ بِكُمْ فِي كَنَائِسِ اللهِ، مِنْ أَجْلِ صَبْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فِي جَمِيعِ اضْطِهَادَاتِكُمْ وَالضِّيقَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُونَهَا، بَيِّنَةً عَلَى قَضَاءِ اللهِ الْعَادِلِ، أَنَّكُمْ تُؤَهَّلُونَ لِمَلَكُوتِ اللهِ الَّذِي لأَجْلِهِ تَتَأَلَّمُونَ أَيْضًا" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل تسالونيكي 1: 4، 5)