التحدى الاقتصادى - لنيافة الانبا موسى

 

1- مقدمة

 

لاشك أن القرن الجديد سيشهد تحديات اقتصادية كثيرة وكبيرة، نذكر منها على سبيل المثال:

 

1- تزايد معدلات البطالة :

 

 حيث يتزايد عدد السكان فى العالم، وبخاصة فى الدول الفقيرة. وحتى فى الدول الغنية بدأت معدلات البطالة تزداد بسبب الميكنة، إذ تستطيع الماكينة أن تستغنى عن عشرات ومئات العمال، بعد عمليات التحديث والحوسبة (Computerization).

 

2- احتمالات ضرب المنتجات المحلية :

 

وذلك من خلال اتفاقية التجارة العالمية (الجات)، وكيف ستجبر كافة الدول على فتح حدودها للسلع الأجنبية، مما يعرض الناتج المحلى والصناعات القومية لخطر الركود، إذ تتضافر حوالى 500 شركة عالمية متعددة الجنسيات، وغاية فى الضخامة والثراء، على فرض منتجاتها بأسعار رخيصة، وإغراق الأسواق المحلية بمنتجاتها الجيدة، مما يضرب سوق البضاعة المحلية بالركود، ويهدد بإغلاق الشركات والمصانع المحلية. وبعد حين.. وبعد ضرب الصناعة المحلية.. تحتكر الشركات العالمية المنتجات وترفع أسعارها كما تشاء. وهذا يهدد الكثير من العمال والموظفين بالبطالة.

 

3- تنامى الاتجاه نحو الخصخصة :

 

مما سيضطر الدولة إلى التخلى عن أهم أدوارها الاجتماعية، إذ يتم بيع القطاع العام إلى شركات وطنية أو أجنبية، تطبق سياسات القطاع الخاص على العمال والموظفين، وتستغنى عن الكثيرين منهم. ومع أن القطاع العام سياسة فيها الكثير من العيوب، بسبب الفساد والاهمال، إلا أن دوره هام فى تحجيم الأسعار وحصانة العمالة، لمصلحة محدودى الدخل. وذلك يستدعى تدخل الدولة - أثناء مسيرة الخصخصة - فى رعاية العمال ومحدودى الدخل، بواسطة قوانين تحميهم، وضرائب تصاعدية ترعاهم.

 

4- سيطرة رجال الأعمال على السياسة :

 

 وهذا أمر هام، إذ تساعدهم قدراتهم المادية على دخول الانتخابات والفوز فيها، ليأخذوا زمام التشريع والقرارات الهامة فى أيديهم، مما يحفظ لهم مصالحهم، ربما دون رعاية لمحدودى الدخل، وهذا ما تراه واضحاً فى الولايات المتحدة.

 

5- سيطرة المال على وسائل الإعلام :

 

 بحيث تصير الإعلانات هى المصدر الرئيسى لشاشات التلفزيون والانترنيت، وتتراجع قيم الدين والأخلاق والأسرة إلى خلف، مفسحة المكان لأفلام منحلة، ومواد إعلامية مدمرة، تخاطب الغرائز، وتنشر الرذيلة.

 

6- شهوة الثراء السريع :

 

 إذ تتصاعد قيمة المال أمام الأجيال الصاعدة، وتتراجع قيمة الغنى الروحى والقناعة والالتزام بالمبادئ السليمة، الأمر الذى يعرض الشباب لتبنى مبادئ منحرفة مادية، وأهداف أرضية محضة، دون اهتمام بحياة الروح أو خلود الملكوت.

 

7- تفشى الفساد وغياب القدوة :

 

حينما يتربع المال على عرش القلب، فتفسد ذمم كبار المسئولين، فيتربحون من وظائفهم، ويفرضون بالمال نفوذهم، ويتعاطون الرشاوى التى تعوج القضاء، وهذه أمور تضغط على نفسية الشباب الفقير، أو محدودى الدخل، وهم الغالبية، مما يحدث حراكاً اجتماعياً خطيراً، وينشر أفكار التطرف والتمرد والثورة لديهم.

 

8- تزايد صور الإسراف المستفز :

 

 وتعاطف بعض الصحف مع احتفالات ومناسبات الأثرياء، فى الزواج والفرص العائلية، بسبب ما يدفعه هؤلاء من أموال، الأمر الذى يستفز شباباً لا يجدون فرصة عمل، ولا فرصة زواج!! وكم نتمنى أن تراعى الصحف القومية والمعارضة والمستقلة، هذا البعد الاجتماعى الخطير، الذى يقود الشباب إلى الإحساس بالمرارة، والرغبة فى التمرد.

 

هذه بعض صور التحدى الاقتصادى الوافد، مع ثقافة السوق الحرة، التى لها - بلا شك - ثمارها الاقتصادية الهامة، ولكنها تحتاج إلى ضوابط اجتماعية ومادية، حتى لا تزيد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، مما يهدد الأم الاجتماعى والسياسى والقومى.

 

المسيحية ومواجهة التحدى الاقتصادى

 

إن دور الكنيسة مع أبنائها، لمواجهة هذه التحديات الماثلة، فى المجال الاقتصادى، شامل وهام، نقدم فيه بعض الأمثلة:

 

1- شرح وجهة النظر المسيحية فى المال :

 

حتى يتعرف الشباب على القيمة الحقيقية للمال فى حياتهم، وعلى التعامل السليم مع المادة، كوسيلة لا كغاية. ويوضح لنا الكتاب المقدس هذه النظرة إلى المال فى الملامح التالية:

أ- المال منحة الله: إذ يقول الكتاب: إن الله "يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع" (1تى 17:6) حتى أننا حينما نقدم ذبائح محبة وصدقات نقول للرب: "منك الجميع، ومن يدك أعطيناك" (1 أى 14:9).

 

ب- وهو غير أساسى للحياة: إذ يعلمنا الكتاب المقدس أنه "متى كان لأحد كثير، فليست حياته من أمواله" (لو 15:12). ويقول أيضاً: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4:4)، ذلك لأننا "به نحيا ونتحرك ونوجد" (أى 28:17).

 

ج- كما أنه غير أساسى للسعادة: قال سليمان الحكيم: "لقمة يابسة ومعها سلام، خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام" (أم 1:17) فالسعادة قيمة روحية ونفسية يستحيل شراؤها بالمال، أو مقايضتها بالمادة.

 

د- والمال غير يقينى: إذ يوصى الرسول بولس الأغنياء "أن لا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على عدم يقينية الغنى، بل على الله الحى" (1تى 17:6). فالمال

غير ثابت، وزائل، ومجرد وسيلة للحياة، ولكنه لا يضمن لنا أى شئ.

 

هـ- والمطلوب هو الكفاية: وليس "البذخ" أو "تعظم المعيشة"، لأن "المتنعمة ماتت وهى حية" (1تى 6:5)، "والتقوى مع القناعة تجارة عظيمة" (1تى 6:6). وفى هذا تعلمنا كلمة الله: "خبزنا كفافنا"، "إن كان لنا قوت وكسوة، فلنكتف بهما" (1تى 8:6)، وتوصينا قائلة: "كونوا مكتفين بما عندكم" (عب 5:13)، "لكى تكونوا ولكم كل اكتفاء، كل حين، فى كل شئ ، تزدادون فى كل عمل صالح" (2 كو 8:9). والكفاية تشمل أساسيات الحياة كالطعام والشراب والسكن والتعليم والصحة والهواء.. وهذا لا يعنى أن لا يطور الشاب حياته، فى استثمار جيد لمواهبه التعليمية أو الإدارية أو المالية، من أجل مستوى أفضل. المهم أن يكون ذلك مع يقين كامل أن الإنسان يجاهد بقوة الله، فى وزنات منحنا إياها الله، ولمجد الله.. وليس فى طموح مادى يسلب محبة الله من القلب، ويضع بدلاً منها محبة المادة أو البذخ أو محبة الذات. لهذا نحن نفضل عبارة "استثمار الوزنات" بدلاً من "الطموح"، حيث يحمل التعبير الأول أمانة المتاجرة فيما أعطانى الله من وزنات لمجد اسمه، بينما يحمل تعبير "الطموح" ذاتية السعى، والاتكال على النفس، وتقحيم الذات.

 

المسيحية وثقافة السوق والحرية الاقتصادية

 

1- المسيحية ليست ضد الحرية الاقتصادية :

 

 وتشجيع الحافز الشخصى، والاستثمارات، ودفع عجلات الإنتاج الزراعى والصناعى والتكنولوجى والإعلامى، فهذا فيه - بالقطع - خير يعم الجميع.

 

2- كل ما يهم المسيحية أن لا نسقط فى أى من المحاذير التالية:

 

أ- حذارى أن نحب المال: لأن "محبة المال أصل لكل الشرور، الذى إذ ابتغاه قوم، ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1تى 10:6).

 

ب- أو أن نشتهى الغنى المادى: لأن "الذين يريدون أن يكونوا أغنياء، يسقطون فى تجربة وفخ وشهوات كثيرة، غبية ومضرة تغرق الناس فى العطب والهلاك" (1تى 9:6).

 

جـ- أو أن نتكل على المال: إذ قال الرب: "ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله" (مر 24:10). كما قال أيوب الصديق: "إن كنت قد جعلت الذهب عمدتى، أو قلت للإبريز أنت متكلى.. أكون قد جحدت الله من فوق" (أى 24:31،28).

 

د- أو أن لا نخدم بوزنة المال المعطاة لنا: إذ يوصى الكتاب المقدس الأغنياء "أن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياء فى أعمال صالحة، وإن يكونوا أسخياء فى العطاء، كرماء فى التوزيع، مدخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكى يمسكوا بالحياة الأبدية" (1تى 6: 18-19).

 

 

هـ- أو أن يسيطر المال على كل شئ: على الإعلام والسياسة والتجارة والثقافة، وهكذا بدل أن نتحدث عن ثقافة السوق نصل إلى سوقية الثقافة، من إنتاج مسرحى وسينمائى وتليفزيونى وإعلامى، هابط ومدمر للقيم. كذلك إذا تحالف المال مع رجال الإعمال، والإعلام، والسياسة، سيطروا على الأجيال الصاعدة بمفاهيم استهلاكية، أو بتأثير تربوى وسياسى خطير، إذ يستطيع الإعلام الآن أن يوجه الناس ويقودهم فى اتجاهات سليمة أو منحرفة. وهكذا راجت سلعة تجارة الجنس، سواء على مستوى الصورة أو التليفزيون أو المجلة أو الانترنيت أو البشر، والمال هو الدافع الوحيد وراء كل ذلك.

 

ط- وأن لا تضر الحرية الاقتصادية بالاقتصاد القومى: وذلك من خلال اتفاقية الجات والشركات الديناصورات متعددة الجنسيات، والتى ستجعل التنافس بين المنتج المحلى والمنتج الأجنبى صعباً للغاية، وربما مستحيلاً، مما يضر بالإنتاج المحلى.

 

ى- وأن لا تضر السماوات المفتوحة وشبكات الاتصال والمعلومات بالهوية القومية: بما فيها من قيم دينية وأخلاقية واجتماعية وأسرية.. وهذه كلها أخطار ماثلة، وربما يكون من المستحيل تجنبها، ولكن لابد من تربية وتأصيل الإنسان المصرى، ضد كل أنواع الغزو القادم، بحيث يصمد روحياً وفكرياً وإنسانياً، أمام كل هذه الضغوطات.

إن سعى وسائل الإعلام والاتصال إلى الحصول على المال، جعلها تقبل إنتاج المواد المخلة بالأخلاق، لتوسيع رقعة المشاهدين، وكسب المزيد من الإعلانات. إنه تحالف المال والغريزة، نحو تدمير الإنسان والقيم!!

 

3- أهمية دعم البعد الروحى والأخروى :

 

 فى حياة الشباب، فكما أن كيان الإنسان يحتوى على الجسد المحتاج إلى الخبز المادى، فهو يحتوى أيضاً على الروح، المحتاجة إلى خبز السماء. إذ "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4:4). وهكذا حينما يتربى شبابنا على الشبع الروحى بالصلاة والإنجيل والأسرار المقدسة والأصوام والحياة الكنسية والخدمة والعطاء، يكتسبون روح القناعة التى هى "مع التقوى تجارة عظيمة" (1تى 6:6).

 

4- أهمية دعم البعد الإنسانى :

 

 فالإنسان أغلى من المادة، وإذا كانت الآلة تلغى الإنسان شيئاً فشيئاً، فلابد من تدارك الأمر، بالمزيد من الاهتمام بالبعد الإنسانى والاجتماعى، سواء بإعادة التدريب، أو بإقامة المشروعات ذات العمالة الكثيفة، أو إنشاء مكاتب للتوظيف، أو إعطاء قروض للشباب لإقامة مشروعات إنتاجية صغيرة.. الخ.

 

5- ضرورة تشجيع الأغنياء لخدمة الفقراء :

 

 وهذه فضيلة هامة نص عليها الكتاب المقدس، طالباً من الأغنياء أن يكونوا "أسخياء فى العطاء، كرماء فى التوزيع" (1تى 18:6)، لينالوا سعادة قال عنها السيد المسيح: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 35:20)، "فالمروى هو أيضاً يروى والنفس السخية تسمنّ" (أم 25:11). وهكذا حين يكون الأغنياء "أغنياء فى أعمال صالحة" (1تى 18:6)، ينشرون الحب والخير، ويساعدون الشباب فى العمل والزواج، ويقيمون المشروعات ذات الطابع كثيف العمال، لأنه مع تزايد الفجوة المادية بين الأغنياء والفقراء، تتسع الفجوة النفسية، التى ينتج عنها الحراك والصراع والحسد والتمرد والقلاقل، وهى أمور تهدد الجميع بلا استثناء، الأغنياء والفقراء.

 

6- مجموعات التنمية الاقتصادية :

 

التى يمكن أن تنتشر فى الكنائس وتقوم بأدوار هامة مثل:

 

أ- الاتصال بالشركات التى تطلب موظفين، وتوصيل الشباب المناسب إليها.

ب- شرح وسائل الحصول على قروض من الصندوق الاجتماعى، أو بنوك التنمية، أو أجهزة تشغيل الشباب بالمحافظات.

ج- إقامة ندوات حول أمور اقتصادية هامة، تعطى الشباب الثقافة المناسبة، ليستعدوا للمستجدات الاقتصادية القادمة، مع انتشار ثقافة السوق والخصخصة.

د- إقامة ندوات حول طريقة كتابة الـ C.V. والنجاح فى الـ Interview.

هـ- ندوات حول كيفية النجاح كمندوب مبيعات، أو مندوب تأمين.

ز- ندوات مع رجال الأعمال الأتقياء، حول كيفية النجاح الشامل فى الحياة: روحياً ومادياً.

ح- المشروعات الصغيرة وتقديم أمثلة لها، وطرق دراسة الجدوى، وإمكانية الاستعانة بخبرات عملية متاحة.

 

7- التحول من المعونة الشهرية إلى المشروع المنتج :

 

 عملاً بمبدأ "بدلاً من أن تعطيه سمكة، علمه كيف يصطاد السمك"... ومن الضرورى أن تتبنى مكاتب الخدمة الاجتماعية بالكنائس هذه السياسة، للاستفادة من المعونات الضخمة التى نقدمها للمحتاجين، لكى تتحول إلى مشروعات إنتاجية صغيرة، ترفع من مستواهم المادى والإنسانى، وتقدم حلولاً جذرية لمشكلات الفقر بصورة نهائية ومتنامية ومستمرة.

 

8- خفض تكاليف الزواج :

وهو أمر تساهم فيه الكنيسة مع وسائل الإعلام، بحيث نتخلص من نفقات كثيرة جعلت الزواج عبئاً ثقيلاً: كالشقة الكبيرة، والأثاث الكثير والثقيل والمكلف، وعلب الملبس، ومصاريف الاحتفال فى قاعة أو فندق... الخ.

 

9- فرص السكن المناسب :

 

لابد أن تتضافر جهود الكنيسة مع الدولة ومع رجال الأعمال، فى أن يحصل الشباب على سكن صغير ومعقول فى تكاليفه، فهذا سيحل أعصى مشكلة فى الزواج.

 

10- رفع قيمة العمل لدى الشباب :

 

 سواء العمل الفكرى والإدارى، أو العمل اليدوى والمهنى. ويستحسن أن يبدأ الشباب فى العمل مبكراً، وهم بعد فى المرحلة الثانوية، فى الاجازات الصيفية، لتتعود أيديهم على الإنتاج، ولا ينتظرون حتى التخرج فى الجامعة، والانتهاء من التجنيد، ليبدأوا مسيرة الحصول على عمل وعائد متأخرين للغاية، الأمر الذى يؤخر قدرتهم على الزواج فى سن معقولة. 

نعم.. هى تحديات كثيرة وكبيرة، ولكن شعارنا الدائم هو... "فى هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذى أحبنا" (رو 37:8)... والشاب المسيحى يهتف دائماً ويقول: "أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى" (فى 13:4).

فإلى التحرك، وبذل الجهد، وروح الابتكار، والقناعة، والشبع الروحى، وحماس الحياة والفكر، حتى ينجح شبابنا فى دنياه وآخرته، فى المسيح يسوع، رفيق الدنيا، وكنز الآخرة.

"ضِيْقٌ وَشِدَّةٌ أَصَابَانِي، أَمَّا وَصَايَاكَ فَهِيَ لَذَّاتِي" (سفر المزامير 119: 143)